تفسيــــر آلمقطع من ايه (( 79 الى 97 )) من سورة الكهف
صفحة 1 من اصل 1
تفسيــــر آلمقطع من ايه (( 79 الى 97 )) من سورة الكهف
السـلام عليكـم ورحمة الله وبركاتـه
آللقآء الســــابع
تفسيــــر آلمقطع من ايه (( 79 الى 97 ))
http://upload.7ozn.com/files13/13099925632.mp3
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف:79)
قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ} "ال" في السفينة هي للعهد الذكري أي: السفينة التي خرقتها.
( فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)أي: أنهم يطلبون الرزق فيها إما بتأجيرها، أو صيد السمك عليها، ونحوه وهم مساكين جمع، والجمع أقله ثلاثة، وليس ضرورياً أن نعرف عددهم.
( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) يعني أن أجعل فيها عيباً، لماذا؟ قال:
( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا)فأردت أن أعيبها حتى إذا مرت بهذا الملك، قال: هذه سفينة معيبة لا حاجة لي فيها؛ لأنه لا يأخذ إلا السفن الصالحة الجيدة، أما هذه فلا حاجة له فيها، فصار فعل الخضر من باب دفع أشد الضررين بأخفهما، ومنه يؤخذ فائدة عظيمة وهي إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، والأطباء يعملون به، تجده يأخذ من الفخذ قطعة فيصلح بها عيباً في الوجه، أو في الرأس، أو ما شابه ذلك، وأخذ منه العلماء - رحمهم الله - أن الوقف إذا دَمَر وخرب فلا بأس أن يباع بعضه ويصرف ثمنه في إصلاح باقيه، ثم بين الخضر حال الغلام فقال:
(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) (الكهف:80)
قوله تعالى: { أَبَوَاهُ } أي: أبوه وأمه { مُؤْمِنَيْنِ } أي: وهو كافر.
( فَخَشِينَا ) أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم.
( أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ) يعني يحملهما على الطغيان والكفر، إما من محبتهما إياه، أو لغير ذلك من الأسباب، وإلا فإن الغالب أن الوالد يؤثِّر على ولده ولكن قد يؤثر الولد على الوالد كما أن الغالب أن الزوج يؤثر على زوجته، ولكن قد تؤثر الزوجة على زوجها.
***
(فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف:81)
قوله تعالى: يعني أنَّا إذا قتلناه؛ فإن الله خير وأبقى؛ نؤمل منه تعالى { أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زكاة } أي في الدين، { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي في الصلة، يعني أنه أراد أن الله يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين، وأوصل في صلة الرحم، ويؤخذ من ذلك أنه يقتل الكافر خوفاً من أن ينشر كفره في الناس.
***
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)
قوله تعالى: { لِغُلامَيْنِ } يعني صغيرين.
( يَتِيمَيْنِ ) قد مات أبوهما.
( فِي الْمَدِينَةِ ) أي: القرية التي أتياها.
( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ) أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.
( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فكان من شكر الله - - لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.
( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي: أراد الله { أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال "فأردنا" ولا قال "فأردت"، بل قال: { فَأَرَادَ رَبُّكَ }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية - خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر - تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.
( وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ) حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو أن الجدار انهدم لظهر الكنْز وأخذه الناس.
( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) هذه مفعول لأجله، والعامل فيه أراد، يعني أراد الله ذلك رحمة منه جلَّ وعلا.
( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) يعني ما فعلت هذا الشيء عن عقل مني أو ذكاء مني ولكنه بإلهام من الله عز وجل وتوفيق؛ لأن هذا الشيء فوق ما يدركه العقل البشري.
( ذَلِكَ تَأْوِيلُ ) أي ذلك تفسيره الذي وعدتك به ) سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ)(الكهف: الآية78). أي: تفسيره، ويحتمل أن يكون التأويل هنا في الثاني العاقبة، يعني ذلك عاقبة ما لم تستطع عليه صبراً؛ لأن التأويل يراد به العاقبة ويراد به التفسير.
( مَا لَمْ تَسْطِعْ ) وفي الأول قال: { مَا لَمْ تَستْطِعْ } لأن "استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع" كل منها لغة عربية صحيحة.
وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن) فوائد جمة عظيمة في هذه القصة لا تجدها في كتاب آخر فينبغي لطالب العلم أن يراجعها لأنها مفيدة جداً.
وبهذا انتهت قصة موسى مع الخضر.
ثم ذكر الله تعالى قصة أخرى سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:
***
(وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:83)
قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ } سواء من يهود أو من قريش أو من غيرهم.
( عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) أي: صاحب القرنين، وكان له ذكر في التاريخ، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل؛ فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ قيل: معناه ذي الملك الواسع من المشرق والمغرب، فإن المشرق قرن والمغرب قرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المشرق: "حيث يطلع قرن الشيطان"[44] ، فيكون هذا كناية عن سعة ملكه، وقيل: ذي القرنين لقوته، ولذلك يعرف أن الفحل من الضأن الذي له قرون يكون أشد وأقوى، وقيل: لأنه كان على رأسه قرنان كتاج الملوك، والحقيقة أن القرآن العظيم لم يبين سبب تسميته بذي القرنين، لكن أقرب ما يكون للقرآن العظيم "المالك للمشرق والمغرب"، وهو مناسب تماماً؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشمس إنها: "تطلع بين قرني شيطان"[45] .
(قُل ) لمن سألك: { سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً } وليس كل ذكره بل ذكراً منه، ثم قصَّ الله القصة:
***
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:84)
قوله تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ } وذلك بثبوت ملكه وسهولة سيره وقوته.
( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) أي شيئاً يتوصل به إلى مقصوده، وقوله: { من كل شيء } لا يعم كل شيء؛ لكن المراد من كل شيء يحتاج إليه في قوة السلطان، والتمكين في الأرض، والدليل على هذا أن "كل شيء" بحسب ما تضاف إليه، فإن الهدهد قال لسليمان عليه السلام عن ملكة اليمن سبأ: { وأوتيت من كل شئ} [النمل: 23] ، ومعلوم أنها لم تؤت ملك السموات والأرض، لكن من كل شيء يكون به تمام الملك، كذلك قال الله تعالى عن ريح عاد: {تدمر كل شيء } [الأحقاف: 25] ، ومعلوم أنها ما دَمَّرت كل شيء، فالمساكن ما دُمِّرت كما قال تعالى: ) فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ )(الاحقاف: الآية25)
(فَأَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف:85)
قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً } أي: تبع السبب الموصل لمقصوده فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع {)فَأَتْبَعَ سَبَباً } وجال في الأرض.
***
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف:86)
قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } من المعلوم أن المراد هو المكان الذي تغرب الشمس فيه، وهو البحر؛ لأن السائر إلى المغرب سوف يصطدم بالبحر والشمس إذا رآها الرائي وجدها تغرب فيه.
( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) هي أرض البحر { حَمِئَةٍ } مسودة من الماء، لأن الماء إذا مكث طويلاً في الأرض صارت سوداء، ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلاَّ فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة، وهي تدور على الأرض، لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه.
( وَوَجَدَ عِنْدَهَا ) أي عند العين الحمئة وهو البحر ( قَوْماً )
( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) يعني أن الله خيره بين أن يعذبهم بالقتل أو بغير القتل أو يحسن إليهم؛ وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه:
(قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) (الكهف:88)
حكمٌ عدل: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } وذلك بالشرك لأن الظلم يطلق على الشرك وعلى غيره، لكن الظاهر، والله أعلم، هنا أن المراد به الشرك لأنه قال: ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى )
يقول: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } العذاب الذي يكون تعزيراً، وعذاب التعزير يرجع إلى رأي الحاكم، إما بالقتل أو بغيره.
(ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً) لأن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
قوله: (نُكْراً ) ينكره المُعَذَّب بفتح الذال، ولكنه بالنسبة لله تعالى ليس بنُكر، بل هو حق وعدل، لكنه ينكره المُعَذَّب ويرى أنه شديد.
( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) المؤمن العامل للصالحات له جزاء عند الله { الْحُسْنَى } وهي الجنة كما قال تعالىلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: الآية26)، فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن: { الْحُسْنَى } هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله [46].
( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) أي سنقول له قولاً يسراً لا صعوبة فيه، فوعد الظالم بأمرين: أنه يعذبه، وأنه يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، والمؤمن وعده بأمرين: بأن له { الْحُسْنَى } وأنه يعامله بما فيه اليسر والسهولة، لكن تأمل في حال المشرك بدأ بتعذيبه ثم ثنى بتعذيب الله، والمؤمن بدأ بثواب الله أولاً ثم بالمعاملة باليسر ثانياً، والفرق ظاهر لأن مقصود المؤمن الوصول إلى الجنة، والوصول إلى الجنة لا شك أنه أفضل وأحب إليه من أن يقال له قول يُسر، وأما الكافر فعذاب الدنيا سابق على عذاب الآخرة وأيسر منه فبدأ به، وأيضاً فالكافر يخاف من عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بالثاني.
***
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) (الكهف:90)
قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } أي: موضع طلوعها، أتبع أولاً السبب إلى المغرب ووصل إلى نهاية الأرض اليابسة مما يمكنه أن يصل إليه ثم عاد إلى المشرق، لأن عمارة الأرض تكون نحو المشرق والمغرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها"[47] دون الشمال والجنوب لأن الشمال والجنوب أقصاه من الشمال، وأقصاه من الجنوب كله ثلج ليس فيه سكان، فالسكان يتبعون الشمس من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق.
( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) وجدها تطلع على قوم ليس عندهم بناء، ولا أشجار ظليلة ولا دور ولا قصور، وبعض العلماء بالغ حتى قال: وليس عليهم ثياب، لأن الثياب فيها نوع من الستر. المهم أن الشمس تحرقهم.
***
(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) (الكهف:91) [/B]
قوله تعالى: {كَذَلِكَ } يعني الأمر كذلك على حقيقته.
( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) أي قد علمنا علم اليقين بما عنده من وسائل الملك وامتداده، أي: بكل ما لديه من ذلك.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (الكهف:93)
قوله تعالى: { أَتْبَعَ سَبَباً } يعني سار واتخذ سبباً يصل به إلى مراده.
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) السدين هما جبلان عظيمان يحولان بين الجهة الشرقية من شرق آسية، والجهة الغربية، وهما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس.
( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا ) أي: لا بينهما ولا وراءهما.
( قَوْماً ) قيل: إنهم الأتراك.
(لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فيها قراءتان: "لاَّ يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلاً" و"لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" والفرق بينهما ظاهر: لا { يَفْقَهُونَ } يعني هم، لا "يُفْقِهُونَ" أي: غيرهم، يعني هم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم، هذه فائدة القراءتين، وكلتاهما صحيحة، وكل واحدة تحمل معنىً غير معنى القراءة الأخرى، لكن بازدواجهما نعرف أن هؤلاء القوم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم.
***
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94)
قوله تعالى: { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ } وحينئذٍ يقع إشكال كيف يكونوا { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ثم ينقل عنهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح فصيح: {{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }؟
والجواب عن هذا سهل جداً، وهو أن ذا القرنين أعطاه الله تعالى ملكاً عظيماً، وعنده من المترجمين ما يُعرف به ما يريد، وما يَعرف به ما يريد غيره، على أنه قد يكون الله عز وجل قد ألهمه لغة الناس الذين استولى عليهم كلِّهم، المهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }، نادَوه بلقبه تعظيماً له.
( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ)يأجوج ومأجوج هاتان قبيلتان من بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث الصحابة بأن الله عز وجل يأمر آدم يوم القيامة فيقول:
"يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِير، وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد" [فاشتد ذلك عليهم] قالوا: يا رسول الله، وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: "أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُم رَجُلٌ وَمِنْ يَأْجُوج ومَأْجُوج أَلْفٌ". ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ..." إلخ الحديث [48].
وبهذا نعرف خطأ من قال: إنهم ليسوا على شكل الآدميين وأن بعضهم في غاية ما يكون من القِصَر، وبعضهم في غاية ما يكون من الطول، وأن بعضهم له أذن يفترشها، وأذن يلتحف بها وما أشبه ذلك، كل هذا من خرافات بني إسرائيل، ولا يجوز أن نصدقه، بل يقال: إنهم من بني آدم، لكن قد يختلفون كما يختلف الناس في البيئات، فتجد أهل خط الاستواء بيئتهم غير بيئة الشماليين، فكل له بيئة، الشرقيون الآن يختلفون عن أهل وسط الكرة الأرضية، فهذا ربما يختلفون فيه، أما أن يختلفوا اختلافاً فادحاً كما يذكر، فهذا ليس بصحيح.
(مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ )الإفساد في الأرض يعم كل ما كان غير صالح، وغير أصلح، يفسدونها في القتل، وفي النهب، وفي الانحراف، وفي الشرك، وفي كل شيء، المهم أنهم يحتاجون إلى أحد يحميهم من هؤلاء.
( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) يعني حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، وهذا اجتهاد في غير محله، لكنهم خافوا أن يقول لا، ولا يمكنهم بعد ذلك، وإلاَّ هذا الاجتهاد: كيف يقولون لهذا الملك الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) هذا لا يقال إلاَّ لشخصٍ لا يستطيع. لكنهم قالوا ذلك خوفاً من أن يرد طلبهم، يريدون أن يقيموا عليه الحجة بأنهم أرادوا أن يعطوه شيئاً يحميهم به من هؤلاء، قال في الجواب:
( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95)
قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } { مَا } مبتدأ و{ خَيْرٌ } خبر المبتدأ، يعني الذي مكَّني فيه ربي من الملك والمال والخدم، وكل شيء، خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليَّ، وهذا كقول سليمان - عليه الصلاة والسلام - في هدية ملكة سبأ، قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)(النمل: الآية36)وهذا من اعتراف الإنسان بنعم ربه عز وجل التي لا يحتاج معها إلى أحد.
( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ )أي: بقوة بدنية لا بقوة مالية؛ لأنه عنده من الأموال الشيء العظيم.
( أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) يعني أكبر مما سألوا، هم سألوا سداً، ولكنه قال ردماً، يعني أشد من السد، فطلب منهم:
***
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:96)
قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } الزُّبَر يعني القطع من الحديد، فجمعوا الحديد وجعلوه يساوي الجبال، وهذا يدل على القوة العظيمة في ذلك الوقت، يعني أرتال من الحديد، تجمع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة.
( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يعني جانبي الجبلين { قَالَ انْفُخُوا } يعني انفخوا على هذا الحديد، وليس المراد بأفواهكم؛ لأن هذا لا يمكن، ولكن انفخوا بالآلات والمعدات التي عنده؛ لأن الله أعطاه ملكاً عظيماً، فنفخوا { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) والحديد معروف أنه إذا أوقد عليه في النار يكون ناراً، تكون القطعة كأنها جمرة، بل هي أشد من الجمرة، ثم طلب أن يؤتوه قطراً يفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب كما قال الله تعالى: ) وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر)(سـبأ: الآية12)، يعني النحاس أرسله الله تعالى لسليمان، بدل ما كان معدناً قاسياً يحتاج إلى إخراج بالمعاول ثم صَهْر بالنار، أسال الله له عين القطر كأنها ماء - سبحان الله -.
قال ذو القرنين: { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فأفرغ عليه القطر - النحاس - فاشتبك النحاس مع قطع الحديد فكان قوياً.
***
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) (الكهف:97)
قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا } و"ما استطاعوا" معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {ما لم تستطع } و{مالم تستطع).(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
آللقآء الســــابع
تفسيــــر آلمقطع من ايه (( 79 الى 97 ))
http://upload.7ozn.com/files13/13099925632.mp3
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف:79)
قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ} "ال" في السفينة هي للعهد الذكري أي: السفينة التي خرقتها.
( فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)أي: أنهم يطلبون الرزق فيها إما بتأجيرها، أو صيد السمك عليها، ونحوه وهم مساكين جمع، والجمع أقله ثلاثة، وليس ضرورياً أن نعرف عددهم.
( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) يعني أن أجعل فيها عيباً، لماذا؟ قال:
( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا)فأردت أن أعيبها حتى إذا مرت بهذا الملك، قال: هذه سفينة معيبة لا حاجة لي فيها؛ لأنه لا يأخذ إلا السفن الصالحة الجيدة، أما هذه فلا حاجة له فيها، فصار فعل الخضر من باب دفع أشد الضررين بأخفهما، ومنه يؤخذ فائدة عظيمة وهي إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، والأطباء يعملون به، تجده يأخذ من الفخذ قطعة فيصلح بها عيباً في الوجه، أو في الرأس، أو ما شابه ذلك، وأخذ منه العلماء - رحمهم الله - أن الوقف إذا دَمَر وخرب فلا بأس أن يباع بعضه ويصرف ثمنه في إصلاح باقيه، ثم بين الخضر حال الغلام فقال:
(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) (الكهف:80)
قوله تعالى: { أَبَوَاهُ } أي: أبوه وأمه { مُؤْمِنَيْنِ } أي: وهو كافر.
( فَخَشِينَا ) أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم.
( أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ) يعني يحملهما على الطغيان والكفر، إما من محبتهما إياه، أو لغير ذلك من الأسباب، وإلا فإن الغالب أن الوالد يؤثِّر على ولده ولكن قد يؤثر الولد على الوالد كما أن الغالب أن الزوج يؤثر على زوجته، ولكن قد تؤثر الزوجة على زوجها.
***
(فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف:81)
قوله تعالى: يعني أنَّا إذا قتلناه؛ فإن الله خير وأبقى؛ نؤمل منه تعالى { أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زكاة } أي في الدين، { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي في الصلة، يعني أنه أراد أن الله يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين، وأوصل في صلة الرحم، ويؤخذ من ذلك أنه يقتل الكافر خوفاً من أن ينشر كفره في الناس.
***
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)
قوله تعالى: { لِغُلامَيْنِ } يعني صغيرين.
( يَتِيمَيْنِ ) قد مات أبوهما.
( فِي الْمَدِينَةِ ) أي: القرية التي أتياها.
( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ) أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.
( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فكان من شكر الله - - لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.
( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي: أراد الله { أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال "فأردنا" ولا قال "فأردت"، بل قال: { فَأَرَادَ رَبُّكَ }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية - خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر - تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.
( وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ) حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو أن الجدار انهدم لظهر الكنْز وأخذه الناس.
( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) هذه مفعول لأجله، والعامل فيه أراد، يعني أراد الله ذلك رحمة منه جلَّ وعلا.
( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) يعني ما فعلت هذا الشيء عن عقل مني أو ذكاء مني ولكنه بإلهام من الله عز وجل وتوفيق؛ لأن هذا الشيء فوق ما يدركه العقل البشري.
( ذَلِكَ تَأْوِيلُ ) أي ذلك تفسيره الذي وعدتك به ) سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ)(الكهف: الآية78). أي: تفسيره، ويحتمل أن يكون التأويل هنا في الثاني العاقبة، يعني ذلك عاقبة ما لم تستطع عليه صبراً؛ لأن التأويل يراد به العاقبة ويراد به التفسير.
( مَا لَمْ تَسْطِعْ ) وفي الأول قال: { مَا لَمْ تَستْطِعْ } لأن "استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع" كل منها لغة عربية صحيحة.
وقد ذكر شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى - في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن) فوائد جمة عظيمة في هذه القصة لا تجدها في كتاب آخر فينبغي لطالب العلم أن يراجعها لأنها مفيدة جداً.
وبهذا انتهت قصة موسى مع الخضر.
ثم ذكر الله تعالى قصة أخرى سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:
***
(وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:83)
قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ } سواء من يهود أو من قريش أو من غيرهم.
( عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) أي: صاحب القرنين، وكان له ذكر في التاريخ، وقد قال اليهود لقريش: اسألوا محمداً عن هذا الرجل؛ فإن أخبركم عنه فهو نبي، ولماذا سمي بذي القرنين؟ قيل: معناه ذي الملك الواسع من المشرق والمغرب، فإن المشرق قرن والمغرب قرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المشرق: "حيث يطلع قرن الشيطان"[44] ، فيكون هذا كناية عن سعة ملكه، وقيل: ذي القرنين لقوته، ولذلك يعرف أن الفحل من الضأن الذي له قرون يكون أشد وأقوى، وقيل: لأنه كان على رأسه قرنان كتاج الملوك، والحقيقة أن القرآن العظيم لم يبين سبب تسميته بذي القرنين، لكن أقرب ما يكون للقرآن العظيم "المالك للمشرق والمغرب"، وهو مناسب تماماً؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشمس إنها: "تطلع بين قرني شيطان"[45] .
(قُل ) لمن سألك: { سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً } وليس كل ذكره بل ذكراً منه، ثم قصَّ الله القصة:
***
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف:84)
قوله تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ } وذلك بثبوت ملكه وسهولة سيره وقوته.
( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) أي شيئاً يتوصل به إلى مقصوده، وقوله: { من كل شيء } لا يعم كل شيء؛ لكن المراد من كل شيء يحتاج إليه في قوة السلطان، والتمكين في الأرض، والدليل على هذا أن "كل شيء" بحسب ما تضاف إليه، فإن الهدهد قال لسليمان عليه السلام عن ملكة اليمن سبأ: { وأوتيت من كل شئ} [النمل: 23] ، ومعلوم أنها لم تؤت ملك السموات والأرض، لكن من كل شيء يكون به تمام الملك، كذلك قال الله تعالى عن ريح عاد: {تدمر كل شيء } [الأحقاف: 25] ، ومعلوم أنها ما دَمَّرت كل شيء، فالمساكن ما دُمِّرت كما قال تعالى: ) فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ )(الاحقاف: الآية25)
(فَأَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف:85)
قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً } أي: تبع السبب الموصل لمقصوده فإنه كان حازماً، انتفع بما أعطاه الله تعالى من الأسباب؛ لأن من الناس من ينتفع، ومن الناس من لا ينتفع، ولكن هذا الملك انتفع {)فَأَتْبَعَ سَبَباً } وجال في الأرض.
***
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (الكهف:86)
قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } من المعلوم أن المراد هو المكان الذي تغرب الشمس فيه، وهو البحر؛ لأن السائر إلى المغرب سوف يصطدم بالبحر والشمس إذا رآها الرائي وجدها تغرب فيه.
( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) هي أرض البحر { حَمِئَةٍ } مسودة من الماء، لأن الماء إذا مكث طويلاً في الأرض صارت سوداء، ومعلوم أنها تغرب في هذه العين الحمئة حسب رؤية الإنسان، وإلاَّ فهي أكبر من الأرض، وأكبر من هذه العين الحمئة، وهي تدور على الأرض، لكن لا حرج أن الإنسان يخبر عن الشيء الذي تراه عيناه بحسب ما رآه.
( وَوَجَدَ عِنْدَهَا ) أي عند العين الحمئة وهو البحر ( قَوْماً )
( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) يعني أن الله خيره بين أن يعذبهم بالقتل أو بغير القتل أو يحسن إليهم؛ وذلك لأن ذي القرنين ملك عاقل، ملك عادل، ويدل لعقله ودينه أنه:
(قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) (الكهف:88)
حكمٌ عدل: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } وذلك بالشرك لأن الظلم يطلق على الشرك وعلى غيره، لكن الظاهر، والله أعلم، هنا أن المراد به الشرك لأنه قال: ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى )
يقول: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } العذاب الذي يكون تعزيراً، وعذاب التعزير يرجع إلى رأي الحاكم، إما بالقتل أو بغيره.
(ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً) لأن العقوبات لا تطهر الكافرين، فالمسلم تطهره العقوبات، أما الكافر فلا، فإنه يعذب في الدنيا وفي الآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
قوله: (نُكْراً ) ينكره المُعَذَّب بفتح الذال، ولكنه بالنسبة لله تعالى ليس بنُكر، بل هو حق وعدل، لكنه ينكره المُعَذَّب ويرى أنه شديد.
( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) المؤمن العامل للصالحات له جزاء عند الله { الْحُسْنَى } وهي الجنة كما قال تعالىلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: الآية26)، فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن: { الْحُسْنَى } هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله [46].
( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) أي سنقول له قولاً يسراً لا صعوبة فيه، فوعد الظالم بأمرين: أنه يعذبه، وأنه يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، والمؤمن وعده بأمرين: بأن له { الْحُسْنَى } وأنه يعامله بما فيه اليسر والسهولة، لكن تأمل في حال المشرك بدأ بتعذيبه ثم ثنى بتعذيب الله، والمؤمن بدأ بثواب الله أولاً ثم بالمعاملة باليسر ثانياً، والفرق ظاهر لأن مقصود المؤمن الوصول إلى الجنة، والوصول إلى الجنة لا شك أنه أفضل وأحب إليه من أن يقال له قول يُسر، وأما الكافر فعذاب الدنيا سابق على عذاب الآخرة وأيسر منه فبدأ به، وأيضاً فالكافر يخاف من عذاب الدنيا أكثر من عذاب الآخرة؛ لأنه لا يؤمن بالثاني.
***
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) (الكهف:90)
قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ } أي: موضع طلوعها، أتبع أولاً السبب إلى المغرب ووصل إلى نهاية الأرض اليابسة مما يمكنه أن يصل إليه ثم عاد إلى المشرق، لأن عمارة الأرض تكون نحو المشرق والمغرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها"[47] دون الشمال والجنوب لأن الشمال والجنوب أقصاه من الشمال، وأقصاه من الجنوب كله ثلج ليس فيه سكان، فالسكان يتبعون الشمس من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق.
( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً) وجدها تطلع على قوم ليس عندهم بناء، ولا أشجار ظليلة ولا دور ولا قصور، وبعض العلماء بالغ حتى قال: وليس عليهم ثياب، لأن الثياب فيها نوع من الستر. المهم أن الشمس تحرقهم.
***
(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) (الكهف:91) [/B]
قوله تعالى: {كَذَلِكَ } يعني الأمر كذلك على حقيقته.
( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) أي قد علمنا علم اليقين بما عنده من وسائل الملك وامتداده، أي: بكل ما لديه من ذلك.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (الكهف:93)
قوله تعالى: { أَتْبَعَ سَبَباً } يعني سار واتخذ سبباً يصل به إلى مراده.
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) السدين هما جبلان عظيمان يحولان بين الجهة الشرقية من شرق آسية، والجهة الغربية، وهما جبلان عظيمان بينهما منفذ ينفذ منه الناس.
( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا ) أي: لا بينهما ولا وراءهما.
( قَوْماً ) قيل: إنهم الأتراك.
(لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فيها قراءتان: "لاَّ يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلاً" و"لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" والفرق بينهما ظاهر: لا { يَفْقَهُونَ } يعني هم، لا "يُفْقِهُونَ" أي: غيرهم، يعني هم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم، هذه فائدة القراءتين، وكلتاهما صحيحة، وكل واحدة تحمل معنىً غير معنى القراءة الأخرى، لكن بازدواجهما نعرف أن هؤلاء القوم لا يعرفون لغة الناس، والناس لا يعرفون لغتهم.
***
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94)
قوله تعالى: { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ } وحينئذٍ يقع إشكال كيف يكونوا { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ثم ينقل عنهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح فصيح: {{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }؟
والجواب عن هذا سهل جداً، وهو أن ذا القرنين أعطاه الله تعالى ملكاً عظيماً، وعنده من المترجمين ما يُعرف به ما يريد، وما يَعرف به ما يريد غيره، على أنه قد يكون الله عز وجل قد ألهمه لغة الناس الذين استولى عليهم كلِّهم، المهم أنهم خاطبوا ذا القرنين بخطاب واضح { قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ }، نادَوه بلقبه تعظيماً له.
( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ)يأجوج ومأجوج هاتان قبيلتان من بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث الصحابة بأن الله عز وجل يأمر آدم يوم القيامة فيقول:
"يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِير، وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد" [فاشتد ذلك عليهم] قالوا: يا رسول الله، وأيُّنا ذلك الواحد؟ قال: "أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُم رَجُلٌ وَمِنْ يَأْجُوج ومَأْجُوج أَلْفٌ". ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ..." إلخ الحديث [48].
وبهذا نعرف خطأ من قال: إنهم ليسوا على شكل الآدميين وأن بعضهم في غاية ما يكون من القِصَر، وبعضهم في غاية ما يكون من الطول، وأن بعضهم له أذن يفترشها، وأذن يلتحف بها وما أشبه ذلك، كل هذا من خرافات بني إسرائيل، ولا يجوز أن نصدقه، بل يقال: إنهم من بني آدم، لكن قد يختلفون كما يختلف الناس في البيئات، فتجد أهل خط الاستواء بيئتهم غير بيئة الشماليين، فكل له بيئة، الشرقيون الآن يختلفون عن أهل وسط الكرة الأرضية، فهذا ربما يختلفون فيه، أما أن يختلفوا اختلافاً فادحاً كما يذكر، فهذا ليس بصحيح.
(مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ )الإفساد في الأرض يعم كل ما كان غير صالح، وغير أصلح، يفسدونها في القتل، وفي النهب، وفي الانحراف، وفي الشرك، وفي كل شيء، المهم أنهم يحتاجون إلى أحد يحميهم من هؤلاء.
( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) يعني حاجزاً يمنع من حضورهم إلينا، فعرضوا عليه أن يعطوه شيئاً، وهذا اجتهاد في غير محله، لكنهم خافوا أن يقول لا، ولا يمكنهم بعد ذلك، وإلاَّ هذا الاجتهاد: كيف يقولون لهذا الملك الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) هذا لا يقال إلاَّ لشخصٍ لا يستطيع. لكنهم قالوا ذلك خوفاً من أن يرد طلبهم، يريدون أن يقيموا عليه الحجة بأنهم أرادوا أن يعطوه شيئاً يحميهم به من هؤلاء، قال في الجواب:
( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95)
قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } { مَا } مبتدأ و{ خَيْرٌ } خبر المبتدأ، يعني الذي مكَّني فيه ربي من الملك والمال والخدم، وكل شيء، خير من هذا الخرج الذي تعرضونه عليَّ، وهذا كقول سليمان - عليه الصلاة والسلام - في هدية ملكة سبأ، قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)(النمل: الآية36)وهذا من اعتراف الإنسان بنعم ربه عز وجل التي لا يحتاج معها إلى أحد.
( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ )أي: بقوة بدنية لا بقوة مالية؛ لأنه عنده من الأموال الشيء العظيم.
( أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) يعني أكبر مما سألوا، هم سألوا سداً، ولكنه قال ردماً، يعني أشد من السد، فطلب منهم:
***
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:96)
قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } الزُّبَر يعني القطع من الحديد، فجمعوا الحديد وجعلوه يساوي الجبال، وهذا يدل على القوة العظيمة في ذلك الوقت، يعني أرتال من الحديد، تجمع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة.
( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) يعني جانبي الجبلين { قَالَ انْفُخُوا } يعني انفخوا على هذا الحديد، وليس المراد بأفواهكم؛ لأن هذا لا يمكن، ولكن انفخوا بالآلات والمعدات التي عنده؛ لأن الله أعطاه ملكاً عظيماً، فنفخوا { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) والحديد معروف أنه إذا أوقد عليه في النار يكون ناراً، تكون القطعة كأنها جمرة، بل هي أشد من الجمرة، ثم طلب أن يؤتوه قطراً يفرغه عليه، والقطر هو النحاس المذاب كما قال الله تعالى: ) وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر)(سـبأ: الآية12)، يعني النحاس أرسله الله تعالى لسليمان، بدل ما كان معدناً قاسياً يحتاج إلى إخراج بالمعاول ثم صَهْر بالنار، أسال الله له عين القطر كأنها ماء - سبحان الله -.
قال ذو القرنين: { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فأفرغ عليه القطر - النحاس - فاشتبك النحاس مع قطع الحديد فكان قوياً.
***
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) (الكهف:97)
قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا } و"ما استطاعوا" معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {ما لم تستطع } و{مالم تستطع).(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى